شهد قطاع السينما انهيارا كبيرا منذ ظهور وباء كوفيد 19 الذي جاء ليزيد من متاعب وتخوفات إمبراطورية صناعة السينما، وباتت معظم الأسواق الرئيسية في تراجع مستمر، وخاصة بعد التهديد الذي تلقته صناعة الأفلام جراء انتشار منصات عرض الفيديو عند الطلب (اس في اودي) (SVOD) (streaming à la demande) او ما يعرف بتقنية بث الفيديو الرقمي ثنائي الاتجاه، الذي كان له تأثير كبير على الصناعة السينيماتوغرافية، منذ بداية العام 2000 ، وسيتضاعف هذا التهديد مع استمرار الوباء، الذي يشجع على تسريع التحول المستمر في إنتاج الأفلام وتوزيعها واستهلاكها لدى الجمهور عن طريق هذه المنصات الرقمية وشركات بث المحتوى عبر الانترنت، التي باتت تتخذ شعار “الكل والآن” (Tout et Tout de Suite).
ومما لاشك فيه أن جائحة كورونا جعلت نتفليكس (Netflix) وأمازون (Amazoune) وغيرها، الرابح الأكبر في استقطاب المشاهدين في هذه الجائحة، وهي التي تستحوذ على اكثر من 160 مليون مشترك، وتتوقع استقطاب ما لايقل عن 6 ملايين مع نهاية العام 2020، وتنافسها منصة أمازون التي تحصي نفس العدد تقريبا، فقد استغلت هذه المنصات فرصة توقف الإنتاج بالاستوديوهات السينمائية الكبيرة، لتحصل على أفلام تم إنتاجها خارج الاستوديوهات الستة الكبرى، وتطلقها مباشرة للمستهلكين،وهي بذلك تحد بشكل أكبر من مجموعة الأفلام المتاحة للموزعين التقليديين، وتحالفت منصات اخرى على شاكلة ديزني Disney وبلاي بلوس +StarzPlay للإستحواذ على أكبر قد ممكن من المشاهدين مستغلة فرصة بقاء أكثر سكان المعمورة الماكثين في بيوتهم منذ ظهور الجائحة.
الشاشة الكبيرة وتحدي العروض العالمية
بالنسبة لشركة والت ديزني، فقد اتخذت قرارا بتأجيل عرض النسخة الحية من “مولان” وفيلم الفانتازيا والخيال العلمي “المتحولون الجدد” (The New Mutants) وفيلم الغموض والرعب (Antlers). وأفلام أخرى مثل أفلام فوكس (أفاتار ، وستار وورز) وإنتاجات أخرى مثل أفلام Marvel وEternals و Black Widow. وعلى العكس من ذلك يبدو أن Warner مصممة بالفعل على إطلاق سراح فيلم تينيت Tenet في أقرب وقت ممكن وعدم انتظار جدول التعافي هذا، لكن هناك شيء واحد مؤكد، أن الفيلم الذي انتظره العالم لن ينتهي به المطاف على منصة رقمية، كما أكد الرئيس التنفيذي لشركة وارنر Warner جون ستانكي، نفس التحدي الذي ترفعه بارامونت على الرغم من القيود المفروضة في إيطاليا، فإن فيلم “المهمة المستحيلة 7” سيستمر تصويره في فينيسيا مدينة البندقية الإيطالية، مؤكدين بذلك أن السينما وقاعات السينما لن تتوقف رغم كل شي.
وليس هذا وحسب فالخبراء يرون أن تفضيل صانعي الأفلام والمنتجين المنصات الرقمية على القاعات السينمائية، فإنهم بذلك يساهمون في تقليص منتجي شباك التذاكر، وفوق كل هذا، أن صناعة النجوم كانت بالأساس موجهة للشاشة الكبيرة، وهي المكان الطبيعي الذين يرغبون في عرض أفلامهم به، رأي يؤكده مخرج الروائع السينمائية الكلاسيكية مارتن سكورسيزي الذي قام بتجربة التعاون مع إحدى شركات بث المحتوى عبر الإنترنت، إلا أن سكورسيزي دعا للدفاع عن النمط الكلاسيكي للسينما، ومشاهدة الأفلام على شاشة عملاقة مع وجود رفقة، نفس الرأي يذهب إليه فريمو لفاريتي، المدير الفني لمهرجان كان السينمائي في تصريح لمجلة “فاريتي” بقوله “إن مُخرجي الأفلام مدفوعون بفكرة عرض أفلامهم على الشاشة الكبيرة ومشاركتها مع الآخرين في أحداث مثل المهرجانات السينمائية، لا أن تنتهي أعمالهم إلى جهاز الأيفون”.
ويشير نفس المصدر انه إضافة إلى ذلك، ومع تأخير إطلاق العديد من الأفلام الكبرى بسبب كورونا، من المتوقع أنها تتزاحم الأفلام المعطلة على شبابيك التذاكر العام المقبل، مما قد يؤدي إلى تراجع المبيعات بسبب المنافسة الشديدة ، وعلى الرغم من معاناة العديد من دول أوروبا في الفترة الحالية، بسبب الموجة الثانية لكورونا، إلا أن صناع السينما لم يعلنوا إيقاف تصوير وإنتاج الأفلام، حيث نجحت الاحتياطات والإجراءات الاحترازية الموضوعة في الحفاظ على سلامة الممثلين وأطقم التصويرإلى حد كبير، بحسب موقع (Variety) وتستمر عمليات التصوير هذا الشتاء، في فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، والسويد، وغيرها من الدول، وارتفع حجم عمليات التصوير بشكل كبير في فرنسا، خاصة منذ يونيو، وذلك بعد أن أطلقت الحكومة الفرنسية صندوق تعويض بقيمة 116 مليون دولار، ليغطي المنتجين في حالة التأجيلات أو الإلغاء المتعلقة بكورونا.
وتحت طائلة البرتوكولات الصحية الخاصة بالحماية من كوفيد 19 كانت باريس قد عاودت الترخيص باستئناف التصوير على أراضيها، بهدف التقليل من حجم الخسائر التي تكبدها قطاع السينما بالمدن الفرنسية مع بداية الجائحة، والتي عرفت تراجع ما نسبته 70 % في عدد مرتادي قاعات السينما، وهي التي حققت شبابيك دور العرض بها نحو 213 مليون متفرج نهاية العام 2019 حيث تضاعف عدد عمليات تصوير الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والإعلانات التجارية؛ يقول ميشيل جوميز، رئيس Mission Cinema، وهي هيئة تقوم بتنسيق الإنتاج في باريس: “لم يكن لدينا هذا العدد الكبير من التصوير في المدينة من قبل.
ويؤكد المخرج الفرنسي كلوفيس كورنيّاك (Clovis Cornillac) الذي قام بتصويرفيلمه “ألوان الحريق” في الشوارع الباريسية بقوله “عندما تكون وراء الكاميرا، تكون مأخوذاً إلى درجة أنك تنسى وضع الكمامة” وقد أتيحت معاودة تصوير عدد من الأفلام، ومن بينها فيلم كورنيّاك، ولكن بشرط التقيّد بتعليمات صحية صارمة، منها الزامية وضع الكمامات للجميع، باستثناء الممثلين خلال تأدية مشاهدهم بطبيعة الحال”.
وقال مدير اتحاد نقابات هوليوود توماس أودونيل لوكالة الأنباء الفرنسية: “أخيرا وبعد طول انتظار، لدي ثقة بأن هذه البروتوكولات، المتشددة والمدروسة كتلك المعتمدة في أي قطاع صناعي في أمريكا، ستبقي طواقم العمل والممثلين بأمان، كذلك الأمر مع المجتمعات التي يعيشون ويعملون فيها.
وقد أشارت التوقعات إلى أنه مع فتح دور السينما نهاية يوينو – خسرت شبابيك التذاكر ما بين 30 إلى 40% من إيراداتها – لكن في حال تأجيل إعادة فتح دور السينما إلى الخريف، فسترتفع الخسائر إلى 60%، لأن جمهور السينما ليس له من خيار سوى مشاهدة الأفلام عبر الانترنت، والأمر ينطبق على المسارح ومراكز التسلية التي تضررت هي الأخرى بتداعيات كوفيد 19، مثلما صرحت به أكبر شركة للمعارض المسرحية في الولايات المتحدة وهي شبكة “أيه إم سي” AMC البالغ عددها 630 قاعة التي قررت غلق نشاط الشبكة لمدة ستة إلى 12 أسبوعا في جميع الولايات المتحدة تماشيا مع التدابير والإرشادات الحكومية والفيدرالية كإجراء احترازي لضمان صحة وسلامة رواد السينما والموظفين.
وفي هذا الإطار مع ملاحظة تبدو مهمة هنا، وهي أن الخطر الأكبر الذي يواجه صناعة السينما على المدى القصير هو تضاؤل ثقة المستهلكين في الأماكن المادية، ومع ذلك قال آدم آرون، الرئيس التنفيذي لشركة (أي ام سي AMC) الذي يبدو متفاءلا نشعر بخيبة أمل كبيرة مع ضيوفنا السينمائيين، وفرق موظفينا لأننا ملزمين بالتقيد بالبرتوكول الصحي الوقاية من كوفيد 19، لأن صحة ورفاهية عملاء وموظفي “أي ام سي” وجميع الأمريكيين، تسود قبل كل شيء. وسنواصل مراقبة هذا الوضع عن كثب ونتطلع إلى اليوم الذي يمكننا فيه مرة أخرى إسعاد رواد السينما في جميع أنحاء البلاد .
ويقول مارك فادي مدير الإنتاج بإستديوهات بارا مونت الشركة الفرنسية التي تُعتَبَر من أقدم شركات الإنتاج في العالم، والتي لم تعرف يوماً مثل هذه الاضطرابات في 125 عاماً من وجودها على هامش زيارته للمجمع السينمائي (La Réunion des cinémas) وحديثه عن تداعيات فيروس كورونا على الإنتاج السينمائي بجزيرة نورماند بفرنسا بالقول “لا بدّ من الاستمرار في التصوير وإلا لتأثرت كل سلسلة السينما سلباً عند إعادة فتح الصالات،وأقرّ بأن ثمة قلقاً دائماً، إذ يكفي أن يصاب ممثل واحد أو المخرج أو مدير التصوير بالفيروس، حتى يتحوّل الأمر مشكلة كبيرة” .
أي مستقبل للفن السابع وقاعات السينما ما بعد كوفيد 19 ؟
صحيح أن صناعة الفيلم السينمائي الكلاسيكي قد ولت بتراجع استخدام لفائف الفيلم السينمائي 35 ملم أمام زحف التكنولوجيا الرقمية، التي ستحيل شريط “هانيبال” الى المتاحف، اذ لم يعد استخدامه متاحا للجميع لتكلفته الباهضة وقلة وسائل عرضه بقاعات السينما منذ سنوات، ولكن بكل تأكيد لن يكون مصير صناعة الفيلم السينمائي بهوليود آو غيرها يشبه مصير وخرافة الاسطوانة الفنوغرافية ” disque phonographique” التي أصبحت الآن من الزمن الجميل !!. ومن العبث القول أن مشاهدة فيلم سينمائي على جهاز سمارتفون كفيل بتعويض المشاهدين متعة وحميمية مشاهدة فيلم على شاشة كبيرة ساحرة وآخاذة.
بالمقابل لا أحد يعرف حقيقة حجم الخسائر التي سيخلفها هذا الزائر الثقيل قبل مع نهاية عام 2020 على الصناعة السينيماتوغرافية؟- مستقبل لا هو قاتم ولا سوداوي، كما يصفه كمال جيان شانداني، الرئيس التنفيذي لشركة (PVR Pictures ) الذي يتوقع أن تأتي الاستثمارات في إنشاء المحتوى من منصات التوزيع بدلا من الاستوديوهات و من المرجح أن تتعايش وتزدهر الاستوديوهات والمنصات، خاصة في الأسواق ضعيفة الاختراق مثل الهند.
لذلك بإمكاننا القول وليس الجزم، بأن الوقت لم يحن بعد لسحق صناعة السينما الكلاسيكية التقليديةـ، أمام زحف المنصات الرقمية ،واستحواذها على نسبة معتبرة من المشاهدين، لأنه لا يزال لديها مجال كبير للنمو،لاسيما عن طريق الإنتاج الجديد القائم على الملكية الفكرية من الأفلام، مثل ألعاب الفيديو والألعاب والكتب والمتنزهات الترفيهية، ولكن بالنهاية، لا يمكن للتكنولوجيا بأي حال من الأحوال تعويض الخيال الإبداعي بل فقط تجعله ممكننا، هذه الحقيقة نلمسها في كل جوانب الحياة الحديثة، وتتجسد بوضوح في مجال السينما.والثابت أن رامبو هوليود بمقدوره دائما الانتصار على الخصم، في الأرض، وفي السماء، حتى ولو كان مصنوعا من كرتون..!!