بقلم: سلوى الغرظاف / فن سبور .
يستيقظ ببطء. يفتح عينيه بتثاقل. فيجد أمه واقفة على رأسه تردد بغضب قائلة: “أجي أَمسخوط الوالدين باقي ناعس؟ ألم تغير ملابسك بعد؟ ستتأخر على المدرسة أيها الفاشل”
تلك العبارة وذاك التصبيح والتحطيم عادات يومية. لربما إذا لم يسمعها كل صباح سيشعر بشيء ما ينقصه. لربما قد يتعكر مزاجه. استيقظ وهو خائف من أي هجوم شرس من نوع آخر. هجوم غالبا ما ينقلب إلى صفعة على الوجه قبل شروق شمس يوم جديد.
لبس “العربي”، ذاك هو إسمه، ثيابه بسرعة البرق ثم حمل حقيبته على ظهره متجها نحو المطبخ ليسأل والدته عن وجبة الفطور. ما إن رأته حتى صرخت بوجهه “هل لا زلت هنا أيها الكسول؟ “إذا قْريتِ ها أنا ها انت! أسيادك استيقظوا وذهبوا إلى المدرسة وأنت لا تزال تحوم حولي!”
ـ قال لها: إنني جائع ألا تريدينني أن أفطر؟ المعلمة تنصحنا بألا نأتي إلى المدرسة ونحن جياع. لأننا بذلك سنفقد القدرة على التركيز.
ـ أجابته: ربما أنا من سيفقد أعصابه. خذ هذه القطعة من الخبز والزبدة واغرب عن وجهي!
ـ لكنني يا أمي لا أحب الزبدة، هل لديك جبن؟
ـ لدي السم، هل تريده؟ الجبن! هل تتهكم علي؟ انتظر حتى يأتي “ذاك المسخوط ديال بوك” فيشتريه لك. إنك تشبهه في صلابة الرأس والبلادة. هيا اذهب وإلا هشمت جمجمتك …
انصرف “العربي” وهو يتمتم “يا لك من امرأة نكدية. دائما عصبية ومزاجية. له الحق أبي أن يهرب من جنونك. ثم استرسل قائلا “ياه على صباح عايشين غير مع الحماق”.
أثناء توجهه نحو قسم الدراسة، سمع صوتا من الخلف يناديه. التفت خلفه ليجد مدير المدرسة يطلب منه الالتحاق بالإدارة. انتابه الخوف وبدأ يكلم نفسه، “ماذا يريد مني المدير هو الآخر في هذا الصباح؟” رأسي لا يتحمل مزيدا من التأنيب. لم تعد لدي طاقة للمزيد من التحمل.لا أرغب في سماع أي كلام من أي أحد.
طلب منه المدير الجلوس. جلس”العربي” وعيناه تدور محاولة الهروب من النظر في عيني المدير، منتظرا ماذا سيقول له.
ـ لماذا تتأخر في القدوم إلى المدرسة كل يوم؟ هل من مانع يجعلك لا تحترم أوقات الدراسة؟
ـ أستيقظ متأخرا، لأنني لا أستطيع النوم باكرا.
ـ ولماذا لا تستطيع؟ هيا أخبرني؟
ـ لأن الشجار بين أبوي يبدأ عند منتصف الليل. بمجرد عودة والدي من العمل. أمي عصبية جدا. تخلق الشجار على أتفه الأسباب. طوال اليوم تصرخ. تضربنا. ولا ندري ما بها. وأبي يأتي متعب من عمله. لا رغبة له في الكلام. كلما سمعنا حوارا بينهما، نعلم أن الحرب قادمة وبقوة. إنهما لا يعرفان الحوار بدون شجار وصراخ.
ظل المدير صامتا لثواني ثم قال له: “مهما كانت الأسباب، يا العربي، عليك الإلتزام بأوقات الدراسة. مشاكل والديك ذلك شأنهما، ولا دخل لك فيها، وعليك احترامهما، كيفما كانا. الأفضل أن تهتم بدروسك. لست الوحيد الذي يمر بمثل هذه الظروف. هناك كثيرون يعانون ضِعف ما تعاني. لكنهم اهتموا بدروسهم وبناء مستقبلهم، حتى لا يعيدوا نفس الجحيم مرتين وحتى لا يكون أبنائهم بالمستقبل مثلك أنت اليوم. كن رجلا وسيتغير الحال لا محالة، هل تفهمني؟”
ـ نعم أستاذ. لكن ماذا يجب علي أن أفعل؟ لا أستطيع الاستيقاظ باكرا!
ـ عليك إيجاد حل. أغلق أذنيك لتستطيع النوم. فكر فقط في مستقبلك. عليك بالدراسة والنجاح دون ملل.
ـ لكن هذا صعب يا أستاذ! الجو بالبيت مقرف. أحيانا أفكر في الهروب من البيت. لكنني أتراجع لخوفي من الشارع.
ـ لا تكن غبيا. لا شيء في هذا الكون صعب ومستحيل. تحتاج فقط إلى العزيمة القوية. فكم من عظماء عاشوا أسوأ الظروف لكنهم غيروا واقعهم المرير، بمستقبل زاهر. استغل هذا الغضب الذي فيك، ليكون سببا قويا نحو التغيير. إن احتجت لأية مساعدة، لا تتردد في الطلب.
ـ شكرا أستاذ. سأبذل قصارى جهدي.
ـ إذن إذهب إلى قسمك، والتحق بأستاذتك. هيا انصرف الآن، وكن رجلا كما عهدتك.
طرق “العربي” باب القسم. دخل مطأطئ الرأس. أَوقفته أُستاذته قائلة “لا زال باكرا أيها المجتهد! هل تظن أنك بمقهى تأتي متى تشاء؟ هذه مؤسسة تعليمية لها ضوابطها. هل تفهم؟”
ـ نعم يا أستاذة. أعتذر منك. فقد أوقفني المدير وطلب مني الالتحاق بالإدارة.
ـ لا يهمني ماذا فعلت قبل المجيء، مايهم هو الالتزام بالوقت واحترام حصة الدرس. نحن هنا من أجلكم ومن أجل تأهليكم وتعليمكم، والفوضى مرفوضة تماما.
ـ هذه فرصتك الأخيرة … خذ مكانك واتبع دروسك!
جلس “العربي” على طاولته شارد الذهن، منهك الجسم. يكلم نفسه متسائلا: هل أستطيع بناء مستقبل أفضل من مستقبل أبي؟ كما نصحني المدير. هل سَأكبر وأتزوج امرأة مثل أمي، عصبية ولسانها كسكين ذابح، يسيل دمك وهي لا تزال تصرخ وتتكلم؟ كل شيء عندها لا … اصمت … مرفوض … ممنوع … أنت غبي … أبوك سبب تعاستي … ضاع شبابي وجمالي معكم. يوما سأخرج ولن تعرفوا أين ذهبت!
لكن صورك يا أمي وأنت صغيرة لم تكن بذاك الجمال الخرافي. ولم تكن بذاك القوام الرشيق. كفى أمي من تَحسيسنا بالذنب. كفى من الشكوى. أنت من اختار زوجك. ولم أزوجك أنا! أنت من عاش قصة الحب معه. تحملي مسؤولية اختيارك. توقفي أرجوك. كفى من هذا الصراخ. صوتك لا يزال يرن في أذني. لا أستطيع التركيز والفهم. عقلي يرفض التعلم. رأسي يؤلمني من قلة النوم. صوتك يملأ كل الأماكن ضجيجا.
ساعديني أن أبني مستقبلي. أن أغير حاضري. ساعديني أن أخرج من هذا الجحيم.
فقط اهدئي وستبدو لك الحياة أفضل. أرجوك كوني لي السند، ولا تكوني العقبة والحاجز. بك قد أنجح، لو استطعتُ النوم بلا صراخ، و استيقظت مرتاحا كباقي الأطفال. وبك قد أنتهي لو استمر الضجيج يوقظني من النوم بِمنتصف الليل. كالقذائف حين تنزل ليلا. فبدل أن تنزل على رؤوس المحاربين، تنزل على رؤوس الأبرياء وهم نيام. إنهم مثلي يحلمون فقط بالكرامة والسلام.